قال الكاتب جورج مونبيوت، بمقال في صحيفة الغارديان البريطانية؛ إن الـ 500 عام الماضية، كانت عبارة عن حفنة من الدول الأوروبية التي أتقنت فن العنف وتقنيات الملاحة، وقامت بغزو مناطق الآخرين والاستيلاء على أراضيهم وشعوبهم.
وأضاف الكاتب في مقاله؛ إنه مع الزمن، وتحت وطأة الحروب المتكررة وثورات الشعوب المستعمرة، “أجبرت البلدان الثرية على ترك معظم الأراضي التي كانت قد استولت عليها، على الأقل من الناحية الرسمية. سعت تلك المناطق إلى ترتيب أوضاعها وتأسيس بلدان مستقلة، إلا أن استقلالها لم يكن أكثر من مجرد استقلال شكلي”.
وتابع: “استمرت البلدان الغنية في نهب الفقراء مستخدمة الدين الدولي والتعديل الهيكلي والانقلابات والفساد، بمساعدة ملاذات الأوفشور الضريبية وسرية الأنظمة، وكثيرا ما كان يتم ذلك من خلال حكومات الوكالة التي نصبوها وسلحوها”.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
يمكن بشكل تقريبي اختصار الخمسمائة سنة الماضية على النحو التالي. حفنة من الأقطار الأوروبية التي أتقنت فن العنف وحازت تقنيات الملاحة البحرية، استخدمت تلك المهارات لغزو المناطق الأخرى والاستيلاء على أراضيها وأياديها العاملة ومواردها.
أفضى التنافس على السيطرة على بلدان الشعوب الأخرى إلى حروب متكررة بين القوى الاستعمارية التي طوّرت في سبيل تبرير العنف مذاهب جديدة – التصنيف العنصري، والتفوق العرقي والواجب الأخلاقي، الذي يتطلب إنقاذ الشعوب الأخرى من همجيتها وفسادها. تلك المذاهب بدورها هي التي أفضت إلى الإبادة الجماعية.
استخدمت المسروقات من أيد عاملة وأراض وبضائع من قبل بعض البلدان الأوروبية لتغذية ثوراتها الصناعية. ومن أجل التعامل مع الزيادة الكبيرة في حجم ومستوى التعاملات، أنشئت أنظمة مالية جديدة، انتهى الأمر إلى أن تهيمن على اقتصاديات تلك البلاد. سمحت النخب الأوروبية لقدر ضئيل من الثروة المنهوبة بالوصول إلى أيدي قواها العاملة سعيا لتلافي الثورة، ونجحت في ذلك في بريطانيا، ولكن لم يحالفها الحظ في أماكن أخرى.
ومع الزمن، وتحت وطأة الحروب المتكررة وثورات الشعوب المستعمرة، أجبرت البلدان الثرية على ترك معظم الأراضي التي كانت قد استولت عليها، على الأقل من الناحية الرسمية. سعت تلك المناطق إلى ترتيب أوضاعها وتأسيس بلدان مستقلة، إلا أن استقلالها لم يكن أكثر من مجرد استقلال شكلي. استمرت البلدان الغنية في نهب الفقراء مستخدمة الدين الدولي والتعديل الهيكلي والانقلابات والفساد، (بمساعدة ملاذات الأوفشور الضريبية وسرية الأنظمة)، وكثيرا ما كان يتم ذلك من خلال حكومات الوكالة التي نصبوها وسلحوها.
بشكل غير متعمد في البداية، ثم بمعرفة تامة من قبل الجناة، أطلقت الثورات الصناعية فضلات منتجاتها في أنظمة المعمورة. في البداية كانت البلدان الثرية هي التي شعرت بالآثار الأشد لذلك، حيث سممت أجواء مدنها ومياه أنهارها، مما انعكس قصر أجل عند الفقراء من شعوبها؛ إذ انتقل الأغنياء للعيش في الأماكن التي لم يلوثوها بفضلاتهم. ثم فيما بعد اكتشفت البلدان الثرية أنها لم تعد بحاجة إلى الصناعات التي تتصاعد منها الأدخنة، فمن خلال التمويل وإنشاء الشركات التابعة، غدا بوسعها حصد الثروة التي تجنيها الصناعات المقامة في بلدان الآخرين ما وراء البحار.
بعض الملوثات كانت غير مرئية وعالمية في الوقت نفسه، ومن بينها ثاني أكسيد الكربون، الذي لم يتبدد وإنما تجمع في الأجواء. جزئيا بسبب أن معظم البلدان الثرية ذات مناخ معتدل، وجزئيا بسبب الفقر الشديد الذي تعاني منه المستعمرات السابقة بسبب قرون من النهب، كانت آثار ثاني أكسيد الكربون وغيرها من غازات البيت الزجاجي أكثر ما يشعر بها أولئك الذين كانوا أقل الناس استفادة من إنتاجها. إذا لم تكن المحادثات في غلاسغو شكلا آخر من أشكال القهر، فينبغي أن يكون العدل المناخي في الصميم منها.
حرصا من البلدان الثرية على أن تظهر دوما بمظهر المنقذ، فقد وعدت بمساعدة مستعمراتها السابقة على التكيف مع الفوضى التي سببتها. منذ عام 2009، تعهدت تلك البلدان الغنية بدفع 100 مليار دولار (750 مليار جنية إسترليني) للدول الأفقر على شكل تمويل مناخي. حتى لو فعلا وفت بما وعدت وقامت بدفع تلك الأموال، فهي مبالغ رمزية شحيحة. بالمقارنة، منذ 2015، أنفقت بلدان مجموعة العشرين 3.3 تريليون دولار دعما لصناعاتها التي تقوم على الوقود الأحفوري. ومن نافلة القول بأنهم بالفعل أخفقوا ولم يفوا بما تعهدوا به.
في آخر عام تتوفر لدينا أرقام له، وهو عام 2019، قدموا ثمانين مليار دولار، لم يخصص من بينها سوى عشرين مليار دولار للتكيف، أي مساعدة الناس على التكيف مع الفوضى المفروضة عليهم، وفقط سبعة بالمائة من هذه الصدقات البخيلة ذهبت إلى البلدان الفقيرة التي هي أحوج ما تكون إلى المال.
بدلا من ذلك، صبت البلدان الغنية الأموال في الجهود التي تبذلها لقطع الطريق على الناس الهاربين من بلدانهم بسبب الانهيارات المناخية وغيرها من الكوارث. ما بين 2013 و2018، أنفقت بريطانيا على إغلاق حدودها تقريبا ضعف ما أنفقته على تمويل المناخ. وأنفقت الولايات المتحدة 11 ضعفا، وأستراليا 13 ضعفا، وكندا 15 ضعفا. بالمجمل، تحيط البلدان الغنية نفسها بجدار مناخي؛ وذلك بهدف إقصاء ضحايا فضلات منتجاتها هي وإبقائهم بعيدين عنها.
إلا أن مهزلة التمويل المناخي لا تنتهي عند هذا الحد؛ فمعظم الأموال التي تزعم البلدان الثرية أنها تقدمها، تأخذ شكل قروض. تقدر منظمة أوكسفام، نظرا لأن معظم الأموال سيتوجب إعادة دفعها مع ما يترتب عليها من فوائد، أن القيمة الحقيقية للأموال الممنوحة لا يتجاوز ثلث القيمة الاسمية. ثم يتم تشجيع البلدان المثقلة بأعباء الديون بتحمل المزيد من الديون لتمويل تكيفها مع الكوارث التي تسببنا بها نحن. إنه أمر مذهل وغاية في الظلم.
دعك من المساعدات، ودعك من القروض، ما تدين به البلدان الغنية للبلدان الفقيرة هو تعويضات. معظم الضرر الذي نجم عن الانهيار المناخي يجعل فكرة التكيف موضع سخرية، فكيف سيتكيف الناس مع درجات حرارة أعلى مما يمكن لبدن الإنسان أن يتحمله، وكيف يمكن أن يتكيفوا مع الأعاصير المتكررة والمدمرة التي تأتي علي البيوت فلا تبقي منها أثرا، وكيف يتكيفون مع غرق الأرخبيلات عن بكرة أبيها، وكيف يتكيفون مع جفاف الأراضي فتصبح الزراعة مستحيلة؟ ولكن بينما غدا مفهوم “الفقد أو التلف” غير القابل للإصلاح مقرا منذ اتفاقية باريس، إلا أن البلدان الغنية أصرت أن ذلك لا يشكل أساسا لتحمل أي مسؤولية أو الالتزام بدفع أي تعويض.
من خلال اعتبار الشفقة التي يقدمونها منحة بدلا من تعويض، بإمكان الدول التي تسببت بالجزء الأكبر من النكبة أن تموضع نفسها في النمط الاستعماري الحق، وتعتبر نفسها المنقذ للعالم، وذلك هو خلاصة ما جاء في كلمة بوريس جونسون الافتتاحية، مستحضرًا شخصية جيمس بوند في غلاسغو: “لدينا الأفكار، ولدينا التكنولوجيا، ولدينا المصرفيون”.
إلا أن ضحايا استغلال العالم الثري لا يحتاجون إلى جيمس بوند ولا إلى غيره من المنقذين البيض. لا يحتاجون إلى استعراض جونسون، ولا يريدون صدقته ولا حتى ذلك الاحتضان القاتل للمصرفيين الذين يمولون حزبه. يحتاجون لأن يسمعهم العالم، ويحتاجون إلى العدالة.